فصل: تفسير الآيات (13- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (13- 20):

{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)}.
التفسير:
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ}.
هو لقاء مع الناس، بهذا العرض الكاشف لقدرة اللّه، وتفرّده بالخلق والأمر، بعد أن شهدوا صورا من مشاهد القيامة، وما يلقى المؤمنون من إحسان ورضوان، وما يلقى الكافرون من خزى وعذاب.. فمن كان من المؤمنين ازداد بهذا اللقاء إيمانا، وتمسكا بما هو فيه، من طاعة وهدى، ومن كان من أهل الكفر والضلال، فليطلب لنفسه النجاة والسلامة، وليعد إلى اللّه من قريب.. فهذه هي الفرصة التي كان يتمناها أهل النار، ولا يجدون سبيلا إليها.
وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ} إشارة إلى هذه الآيات التي كشفت عن أحوال الناس، وبينت لهم ما هم فيه من استقامة وعوج، فيعرف كلّ ما يأخذ وما يدع، مما هو خير له، وأصلح لشأنه.
وقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً} إشارة إلى ما يسوق اللّه سبحانه وتعالى إلى العباد من رزق، وأن خير هذا الرزق وأعظمه هو هذا الكتاب الكريم، الذي بين يدى هذا النبي الكريم.
وقوله تعالى: {وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} أي لا ينتفع بهذا الرزق، ولا يحصّل منه ثمرا طيبا إلا من يرجع إلى هذا الكتاب، ويعرض نفسه عليه، فيكون له فيه نظر واعتبار.
قوله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ}.
هو دعوة إلى المؤمنين أن يمضوا في طريقهم الذي استقاموا فيه على عبادة اللّه، وعلى إخلاص العبودية له وحده، دون أن يلتفتوا إلى موقف هؤلاء الكافرين وإلى كراهيتهم لهذا الطريق أن يسلكه المؤمنون.
قوله تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ} خبر لمبتدأ محذوف، تقديره هو، اللّه سبحانه وتعالى.. أي أن اللّه سبحانه وتعالى هو الكبير المتعال، ذو العرش والسلطان، المتفرد بهذا المقام العالي، والسلطان العظيم، لا يشاركه أحد، ولا ينازعه سلطان.
{يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ} الروح، هو القرآن الكريم، وإلقاؤه: نزوله.. أي أن اللّه سبحانه هو الذي ينزل هذا القرآن وحيا منه بأمره، على من يشاء من عباده، والمراد هنا، هو رسول اللّه، صلوات اللّه وسلامه عليه.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا} [52: الشورى].
وقوله تعالى: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} أي لينذر الرسول الناس، {يَوْمَ التَّلاقِ}، وهو يوم القيامة، الذي يكون فيه لقاء اللّه، للحساب والجزاء.
قوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ}.
هو بيان ليوم التلاق، وهو يوم القيامة يوم هم بارزون أي ظاهرون، ظاهرا وباطنا، قد انكشفت سرائرهم، وظهر مستورهم: {لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ}.
كما يقول سبحانه: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ} [18: الحاقة].
والمراد ببروز الناس، وظهور حفاياهم في هذا اليوم، هو ما يشهدون بأنفسهم مما انطوت عليه سرائرهم، وما أخفاه بعضهم عن بعض.. ففى هذا اليوم ينكشف كل مستور منهم، لهم، ولغيرهم، كما يقول سبحانه: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ} [9: الطارق].
أما علم اللّه سبحانه وتعالى، فهو علم كامل شامل، لا يحدّه زمان ولا مكان.
وقوله تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} هو سؤال بلسان الحال، حيث يظهر سلطان اللّه عيانا لأهل الحشر، مؤمنهم وكافرهم.
وقوله تعالى: {لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ} هو جواب بلسان الحال أيضا.
حيث لا جواب غيره.
وفى وصف اللّه سبحانه وتعالى بالوحدانية والقهر- إشارة إلى هاتين الصفتين اللتين يتجلى بهما اللّه سبحانه وتعالى في هذا الموقف، حيث يتصاغر كل سلطان ويخفت كل صوت، ويذلّ كل جبار.، كما يقول سبحانه: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} [111: طه].
قوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ}.
ومع تفرد اللّه سبحانه وتعالى في هذا اليوم بالوحدانية المطلقة، والسلطان القاهر، فإنه سبحانه، لا يسلط سلطانه وقهره وجبروته على أحد من خلقه، بل إن عدله ليقوم إلى جانب قهره وجبروته، فلا يظلم أحدا، {لا ظلم اليوم}.
بل إن كل نفس بما كسبت رهينة.. {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ}.
لا يشغله شأن عن شأن، ولا يعوقه حساب أحد عن أحد، حتى يتصور أن يقع ظلم، أو خطأ في حساب هذا الجمع العظيم من المحاسبين.: وهذا- واللّه أعلم- هو السر في ذكر هذا القيد الوارد على نفى الظلم {لا ظلم اليوم}.
حيث هذه الحشود الكثيرة التي تحاسب في هذا اليوم.. فإنه مع هذه الحشود من الأمم في هذا اليوم، فإنها تحاسب حسابا سريعا، بلا معوّق.. إذ كان اللّه سبحانه وتعالى يعلم بعلمه كل شيء.. قبل الحساب، وأثناء الحساب، وبعد الحساب.
قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ}.
هو خطاب للنبى الكريم بإنذار قومه، بما أوحى إليه عن يوم التلاق، وهو يوم الآزفة.. أي يوم الساعة الآزفة، أي القريبة.
وقوله تعالى: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ}.
{إذ}، ظرف.. بدل من يوم الآزفة.. والحناجر: جمع حنجرة، وهى الغلصمة في أعلى الزور، والكاظم: المأخوذ من كظمه، أي منمخنقه.. يقال كظم القربة أي ربط فمها، ومنه كظم الغيظ: أي حبسه في الصدر.
والمعنى: وأنذر الناس- أيها النبي- وحذرهم يوم القيامة وقد أزف، وهو يوم عظيم، تختنق فيه الأنفاس، وتضيق الصدور، وتجف القلوب وتضطرب، حتى لتبلغ القلوب الحناجر في خفقها واضطرابها.
وقوله {كاظمين} حال من أصحاب القلوب.
وقوله تعالى: {ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ}.
أي ليس للظالمين في هذا اليوم العظيم، من صاحب أو صديق يعين، أو من شفيع تقبل شفاعته فيهم.
قوله تعالى: {يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
خائنة الأعين: أي نظرة العين تكون عن خلسة، لا يراها الناس، ولا يعلم بها المنظور إليه.
وقوله تعالى: {يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ} هو تعليل لما في الآية السابقة من وعيد للظالمين الذين أنذروا بيوم القيامة، وما فيه من أهوال، وأن الذي سيحاسبهم هناك هو اللّه سبحانه، الذي يعلم ما يبدون وما يكتمون، لا تخفى عليهم منهم خافية، ولا يردّ عنهم بأسه أحد، ولا تقبل فيهم عنده شفاعة من أحد.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} أي أنه سبحانه- مع بأسه، وسلطانه لم يظلمهم، بل وفّاهم جزاء أعمالهم، ولم يظلموا مثقال ذرة، لأن الذي قضى بهذا الحكم فيهم، هو اللّه، واللّه لا يقضى إلا بالحق.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} أي أن هؤلاء الذين يعبدهم المشركون من دون اللّه، لا يقضون بشيء، أي لا يحكمون بحق أو باطل.
لأن الذي يحكم، هو الذي يملك، وهم- أيّا كانوا- لا يملكون من الأمر شيئا {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [19: الانفطار] وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} أي إن اللّه سبحانه، إذ يقضى فإنما يقضى عن علم.
وإذ كان السمع والبصر، هما المصدران لكل علم ومعرفة يحصّلها الإنسان، فإن اللّه سبحانه وتعالى هو {السميع} الذي إليه يرجع كل مسموع.. {البصير} الذي يردّ إليه كل ما يبصر.

.تفسير الآيات (21- 27):

{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ}.
أي ما شأن هؤلاء المشركين، وكيف يقفون هذا الموقف العنادىّ الذي هم فيه مع النبي؟ ألم يعلموا ما أخذ اللّه به الظالمين قبلهم؟ وأ لم يسيروا في الأرض، وينظروا كيف كانت عاقبة هؤلاء الظالمين، وكيف نزل بهم بلاء اللّه، وقد كانوا أقوى قوة من هؤلاء المشركين، وأكثر أثاثا ورئيا، وأعز سلطانا ونفرا؟
والآثار في الأرض: التأثير فيها بالعمل في وجوه العمران.. فيكون ذلك آثارا باقية بعدهم.. والواقي: المدافع، والحامى قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ} {ذلك} إشارة إلى هذا البلاء المهلك، الذي أخذ اللّه به الظالمين، وأنه بسبب أنهم كانت تأتيهم رسلهم {بالبينات} أي بالآيات البينة المعجزة، فكذبوا بهذه الآيات، وكفروا باللّه- فكان هذا الهلاك جزاء لهم على كفرهم.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ} إشارة إلى أن قوة هؤلاء الأقوياء، هي ضعف وخذلان، أمام قوة اللّه التي لا تدفع، وأن عذابه شديد لا يعدّ هذا العذاب الذي يسوقه الظالمون إلى ظالميهم، شيئا، بالنسبة إلى عذاب اللّه الذي يسوقه إليهم.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ} وهذا مثل من أمثلة الظالمين، الذين لو نظر هؤلاء المشركون إلى الوراء قليلا لرأوا صورتهم ممثلة فيهم.. فهم وفرعون على سواء في الغطرسة، والكبر، والعناد.
والقرآن الكريم يجمع كثيرا في قصصه، بين المشركين من قريش، وبين فرعون، لما بينهم وبينه من مشابه كثيرة، من كبر، وأنفة، وجاهلية مغرورة حمقاء.
والآيات البينات: هي المعجزات التي كانت مع موسى، من العصا، واليد.
والسلطان المبين: هو الاعجاز القاهر الذي بين يديه من هذه المعجزات.
هذا، وقارون وإن كان من قوم موسى، إلا أنه أضيف إلى فرعون، إذ كان على شاكلته، في الاستعلاء، والطغيان.
قوله تعالى: {فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ}.
أي أن فرعون وشيعته، حين استقبلوا هذه الآيات التي طلع بها موسى عليهم، لم يتوقفوا عندها، ولم ينظروا فيها، بل أسرعوا بهذا الاتهام الذي رموها به، فقالوا ساحر كذاب.
ثم إنه لما جمع فرعون السحرة، ليبطل بهم سحر موسى- كما زعم- والتقى موسى والسحرة، وأبطل كيدهم، فلم يملكوا إلا الإذعان للحق، والإيمان به- عندئذ لم يجد فرعون إلا أن يفزع إلى قوته وسلطانه، بعد أن سقطت حجته، وبطل اتهامه، فأقبل على من آمن بموسى من السحرة وغيرهم، يصبّ عليهم سياط النقمة والبلاء، فيقتل أبناءهم أمام أعينهم، ويستبيح حرماتهم باستحياء نسائهم، فلا يرعى لحرّة حرمة.
فقوله تعالى: {فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا} إشارة إلى ظهور الحق عيانا لهم، بحيث لا تنفع معه المكابرة وقوله تعالى: {وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} إشارة إلى أن ما يكيد به الكافرون للمؤمنين، وما يأخذونهم به من ألوان البلاء والعذاب، هو من الأباطيل، التي لا يجد لها المؤمنون أثرا إلى جانب ما ملكوا من إيمان، هم معه في عزة في الدنيا، وسعادة وفوز برضوان اللّه في الآخرة.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان السحرة، بعد أن دخل الإيمان في قلوبهم: {قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى} [72- 73 طه] قوله تعالى: {وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ}.
فى الآية السابقة سلّط فرعون وهامان وقارون أعوانهم وجنودهم على المؤمنين، يقتلون أبناءهم ويستحيون نساءهم: {فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ}.
أما موسى نفسه، فإن فرعون وحده، هو الذي سيتولى أمره، وذلك ليظهر للناس أنه القادر على ما عجزت عنه السحرة مجتمعين، وأنه إذا كان السحرة- وما معهم من سحر- قد خافوا موسى، وأسلموا له، فإن فرعون سيقتله قتلا، لا يخشى ما معه من سحر.. بل إنه لا يخشى ربه الذي يقول إنه رسول من عنده، وأن ربه هو الذي وضع بين يديه هذا الذي سحر الناس به!.. إنى سأقتله، فليلقنى بما معه من سحر، وليدع ربه ليخلصه من يدى.
{وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى}.
أي دعوا موسى لا تقتلوه أنتم، بل إننى أنا الذي سأتولى قتله.
والسؤال هنا: إن أحدا لم يعرض لفرعون، ولم يحل بينه وبين ما يريد في موسى.. فما السر في أن يقول هذا القول: {ذرونى} أي اتركوني؟
وهل أراد فرعون شيئا يفعله بموسى ثم عرض له أحد دونه؟ وهل يجرؤ أحد أن يعترض طريق فرعون إلى ما يريد؟.
ما السرّ إذن في قوله هذا: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى}؟.
الجواب- واللّه أعلم- أن هذا القول من فرعون يكشف عن خوف كان مستوليا عليه من موسى، ومن أن خطرا داهما يتهدده من جهته.
فلقد كان يعلم- بعد أن رأى ما رأى من المعجزات- أن موسى يستند إلى قوة لا قبل لأحد بها، وأنه لو أراد بموسى شرّا لما استطاع، ولأصابه هو بلاء عظيم.. إنه كان على يقين بأن موسى على حق، ولكن الغطرسة، والكبر، وحب التسلط والسلطان- كل أولئك قد جعله يؤثر ما هو فيه من ضلال على هذا الحق الذي يدعى إليه.
فقول فرعون: {ذرونى أقتل موسى} يشير إلى أن شيئا ما بداخله، يمسك به، وأن مشاعر خفية تلقاه بالتخويف والتحذير كلما هم أن يبطش بموسى، ويخلص من هذا الخطر الذي يتهدده منه ومن سحره.. وكأن فرعون بقوله:
{ذرونى أقتل موسى} إنما يتحدث إلى هذه المشاعر التي تغلّ يده، وتحول بينه وبين ما يشتهى من الانتقام من هذا العدو المخيف!.
وفى قوله: {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} ما يشير إلى هذا الخوف الذي يملأ كيان فرعون، أكثر مما يشير إلى الاستخفاف، وعدم المبالاة.
وفى قوله: {إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ} ما يكشف عن وجه من وجوه المخاوف التي تعيش مع فرعون من جهة موسى.. ولهذا فإنه يريد أن يتحمل هذه المخاطرة، ويقدم على قتل موسى.
أيّا كان الثمن الذي يقدمه من أجل هذا.
قوله تعالى: {وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ}.
هذا ما يلقى به موسى تهديد فرعون له بالقتل.. إنه يلوذ بحمى ربه من طغيان هذا الطاغية، فهو- سبحانه- القادر على أن يرد بأس هذا الجبار المتكبر، الذي لا يؤمن باللّه، ولا يخشى حسابه وعقابه.
وخطاب موسى في قوله: {وربكم} هو خطاب للمؤمنين، الذين يتهددهم فرعون كما يتهدده.. فهو بهذا يدعوهم إلى أن يعوذوا باللّه من هذا الجبار- المتكبر، وأن يسلموا أمرهم إليه، وأن يصبروا على ما يلقون من أذى وضر.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا} [128: الأعراف].